– كلمات في الدعوة إلى الله.
-التحذير من التسرع في الفتيا.
أيها الأخوة: إن من الأمور العظيمة التي تساهل فيها كثير من الناس ، التسرع في الفتيا ، والقول على الله بغير علم ، قال تعالى: (ولا تقولوا لما تصفُ ألسنتكم الكذب هذا حلـٰل وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يُفلحون)
والفُتيا والفتوى ، لغتان ، وهي جواب المفتي.
وإن شئت قل: هي الإخبار عن حكم الشرع لا على وجه الإلزام.
وهي فرض كفاية ، إذا قام به بعض الناس سقط الإثم عن البقية.
والفتوى شأنها عظيم ، لا ينبغي للمسلم التساهل فيها ، والمفتي موقِّع عن الله عزوجل ، فلا يجوز له التسرع بالفتوى، فلا يقل هذا حلال أو هذا حرام ، من غير تثبت ، ومن غير بينة ولا برهان.
قال تعالى: (ولا تقولوا لما تصفُ ألسنتكم الكذب هذا حلـٰل وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب)
قال الحافظ النووي في آداب الفتوى(١٣): (اعلم أن الإفتاءَ عظيمُ الخطر، كبيرُ الموقع ، كثيرُ الفضل ، لأن المفتيَ وارثُ الأنبياء صلواتُ الله وسلامه عليهم، وقائمٌ بفرض الكفاية، لكنه مُعَرَّضٌ للخطأ، ولهذا قالوا: المفتي مُوَقِّعٌ عن الله تعالى.اهـ
وكان السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين والأئمة المجتهدين ، يهابون الفُتيا ، ولا يتصدرون لها ، وكان بعضهم يدفعها إلى بعض حتى يكفيه صاحبه الفتوى.
قال عبدالرحمن بن أبي ليلى: (أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام في المسجد فما كان منهم محدث إلا ودَّ أن أخاه كفاه الحديث ولا مفتٍ إلا ودَّ أن أخاه كفاه الفتيا) رواه ابن عبدالبر في الجامع(١٥٨١) بسند صحيح.
وعن معاوية بن أبي عياش أنه كان جالساً عند عبدالله بن الزبير وعاصم بن عمر فجاءهم محمد بن إياس بن البكير فقال: إن رجلاً من أهل المدينة طلق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها فماذا تريان؟ فقال عبدالله بن الزبير: إن هذا الأمر ما لنا فيه قول ، فاذهب إلى عبدالله بن عباس وأبي هريرة ، فسلْهُما ، ثم ائتنا فأخبرنا ، فذهب فسألهما فقال ابن عباس لأبي هريرة أفته يا أبا هريرة فقد جاءتك معضلة) رواه ابن عبدالبر في الجامع(١٥٨٣) بسند صحيح.
وعن حجاج بن عمير بن سعد قال: (سألت علقمة عن مسألة ، فقال: ائت عبيدة فاسأله فأتيت عبيدة ، فقال: ائت علقمة فقلت: علقمة أرسلني إليك ، فقال: ائت مسروقًا فاسأله فأتيت مسروقًا فسألته ، فقال: ائت علقمة فاسأله فقلت: علقمة أرسلني إلى عبيدة ، وعبيدة أرسلني إليك ، فقال: ائت عبد الرحمن بن أبي ليلى فأتيت عبد الرحمن بن أبي ليلى فسألته فكرهه ، ثم رجعت إلى علقمة فأخبرته ، قال: كان يقال: أجرأ القوم على الفتيا أدناهم علماً) رواه الآجري في أخلاق العلماء(١١٠)
-هكذا حال السلف: يهابون الفتيا ، ويشددون فيها ، ويتدافعونها بينهم ، وكان من ورعهم في الإفتاء يتوقف أحدهم عن الفتوى في أشياء معروفة معلومة ، وقد كانت المسألة تُعرض على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيجمع لها أهل بدر.
قال الشعبي والحسن وأبو حَصين: إن أحدكم ليفتي في المسألة ، ولو ردت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر.(ذكره النووي في الفتوى(١٥)
-هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمير المؤمنين ، ومن كبار فقهاء الصحابة ، قال عنه عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: (إني لأحسب عمر قد ذهب بتسعة أعشار العلم) رواه أبو خيثمة في كتاب العلم(٦١) بسند رجاله ثقات.
كان رضي الله عنه يتورع عن الفتوى ، ويجمع لها كبار الصحابة.
-أيها الأخوة: يُتشرط فيمن يتصدر للفتيا أن يكون: مسلماً ، بالغاً ، عاقلاً ، ثقة ، مأموناً ، متنزهاً عن أسباب الفسق وخوارم المرؤة ، وأن يكون له نية ووقار وسكينة.
فلا تؤخذ الفتوى من كافر ولا من صغير ولا مجنون ولا مجروح ولا مبتدع ولا فاسق ولا مخروم المرؤة.
وإنما تؤخذ الفتوى من أهل العلم والفضل ممن عرفوا بالخير والصلاح وسلامة العقيدة والمنهج.
قال الحافظ النووي في الفتوى(٢٠): اتفقوا أن الفاسق لا تصح فتواه ، ونقل الخطيب فيه الإجماع.اهـ
وقال العلامة المرداوي الحنبلي في التحرير(٣٤٠): ويمنع عندنا وعند الأكثر من الفتوى من لم يعرف بعلم أو جُهل حاله ، ويلزم ولي الأمر منعه ، قال ربيعة الرأي:بعض من يفتي أحق بالسجن من السُّرَّاق.اهـ
-والواجب على المفتي أن لا يفتي الناس في كل شيء.
قال ابن عباس رضي الله عنه: (إن من أفتى الناس في كل ما يسألونه عنه لمجنون) رواه ابن عبدالبر في الجامع(١٥٨٤) بسند صحيح
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (إن الذي يفتي الناس في كل ما يسألونه لمجنون) رواه أبو خيثمة في كتاب العلم(١٠) وابن عبدالبر في الجامع(١٥٨٦) بسند صحيح
-والواجب على المفتي أن يكثر من قول: (الله أعلم) أو قول:،(لا أدري) فإن علامة فقه المفتي الإكثار من قول: (لا أدري) وهذا رفعة له لا منقصة.
والواجب أيضاً على من سئل عن مسألة ولا يعرف حكمها أن يقول (لا أعلم) ولا يتكلف في الإجابة.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: (أيها الناس من سُئل عن علم يعلمُهُ فليقل به ، ومَن لم يكن عنده علم فليقل: الله أعلم ، فإن من العلم أن تقول لما لا تعلم الله أعلم ، إن الله تبارك وتعالى قال لنبيه: (قل ما أَسئلُكمـ عليه من أجر وما أنا من المتكلفين) رواه البخاري(٤٨٠٩) ومسلم(٢٧٩٨)
وفي رواية لمسلم(٢٧٩٨) عنه: (من فقه الرجل أن يقول لما لا علم له به: الله أعلم).
ورواية لأبي خيثمة في كتاب العلم(٤٩) عنه: (إن من العلم أن يقول الذي لا يعلم: الله أعلم).
وقال بعض السلف: نص العلم (لا أدري و لا أعلم)
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (قول الرجل فيما لا يعلم: لا أعلم ، نصف العلم) رواه ابن عبدالبر في الجامع(١٥٨٥)
وقال الشعبي: (لا أدري ، نصف العلم) ذكره ابن مفلح في الآداب(٢/١٣٢)
وقال القاسم بن محمد: (لأن يعيش الرجل جاهلاً خير له من أن يفتي بما لا يعلم) رواه أبو خيثمة في كتاب العلم(٩٠) بسند صحيح
وكان الأئمة الأربعة رحمهم الله أهل ورع في باب الفتوى ، سُئل الإمام مالك عن ثمان وأربعين مسألة، فأجاب منها عن اثنتين وثلاثين مسألة بقوله: (لا أدري).
وجاءه رجلٌ بأربعين مسألة ، فما أجابه منها إِلَّا في خمس مسائل.
وسٌئل مرة عن اثنين وعشرين مسألة ، فما أجاب منها إلا في واحدة أو اثنتين.
وربما يُسأل عن مائة مسألة ، فيجيب منها في خمس أو عشر، ويقول في الباقي: (لا أدري)
ذكره ابن عبدالبر في الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء(٣٨)
وكان الإمام مالك يقول: (جُنَّة العالم قوله: لا أدري ، فإذا أضاعها أصيبت مقاتل) رراه الآجري في أخلاق العلماء(١١٥)
وكان الإمام أحمد شديد الكراهة والمنع للإفتاء بمسألة ليس فيها أثر عن السلف ،كما قال لبعض أصحابه: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام.
قال أبو داود في مسأله: ما أُحصي سمعت أحمد سئل عن كثير مما فيه الاختلاف في العلم فيقول: لا أدري ، قال أبو داود: وسمعت أحمد يقول: ما رأيت مثل ابن عيينة في الفتوى أحسن فتيا منه ، كان أهون عليه أن يقول: لا أدري.
وقال عبدالله بن أحمد في مسائله: كنت أسمع أبي كثيراً يسأل عن المسائل فيقول: لا أدري ، ويقف إذا كانت مسألة فيها اختلاف ، وكثيراً ما كان يقول: سل غيري ، فإن قيل له: من نسأل؟ قال: سلوا العلماء ، ولا يكاد يسمي رجلاً بعينه.
(ذكره ابن القيم في إعلام الموقعين١/٢٧)
كتبه/
بدر محمد البدر العنزي
عضو الدعوة والإرشاد
18 رجب 1438هـ