مباحث في علم مصطلح الحديث
– آداب المحدث –
ينبغي للمحدث أن يتحلى بعدة صفات وهي:
@- ينبغي له أن يخلص نيته في طلب العلم
فإن طلب العلم قربة يتقرب بها العبد إلى ربه والقرب تفتقر إلى نية خالصة.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمعت
رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى )
رواه البخاري (١) ومسلم (١٩٠٧)
وعن كعب بن مالك رضي الله عنه مرفوعاً ( من طلب العلم ليجاري به العلماء أو ليماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار )
رواه الترمذي(٢٦٥٤) وحسنه الألباني.
قال الْحَسَنَ البصري رحمه الله: «مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ ابْتِغَاءَ الْآخِرَةَ أَدْرَكَهَا وَمَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ ابْتِغَاءَ الدُّنْيَا فَهُوَ حَظَّهُ مِنْهُ»
رواه الخطيب في اقتضاء العلم العمل(١٠٣)
قال وكيع سمعت سُفْيَانَ رحمه الله يَقُولُ: «مَا شَيْءٌ أَخْوَفُ عِنْدِي مِنْهُ يَعْنِي الْحَدِيثَ، وَمَا مِنْ شَيْءٍ يَعْدِلُهُ لِمَنْ أَرَادَ اللَّهَ بِهِ»
رواه الخطيب في الجامع(١٤)
قَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ رحمه الله: «مَنْ طَلَبَ الْحَدِيثَ لِغَيْرِ اللَّهِ، مَكَرَ بِهِ»
رواه الخطيب في الجامع(١٩)
وقال الإمام أحمد :( طلب العلم أفضل الأعمال لمن صحت نيته ) قيل له: فأي شيء يصحح النية؟
قال:( ينوي يتواضع فيه وينفي عنه الجهل )
ذكره الحجاوي في شرح منظومة الآداب(٧٠)
قال الحافظ الذهبي في الموقظة(٣٢): آداب المحدث: تصحيح النية من طالب العلم متعين ، فمن طلب الحديث للمكاثرة أو المفاخرة أو ليروي أو ليتناول الوظائف أو ليثني عليه وعلى معرفته فقد خسر ، وإن طلبه لله وللعمل به وللقربة بكثرة الصلاة على نبيه عليه الصلاة والسلام ولنفع الناس فقد فاز ، وإن كانت النية ممزوجة بالأمرين فالحكم للغالب ، وإن كان طلبه لفرط المحبة فيه مع قطع النظر عن الأجر وعن بني آدم فهذا كثيراً ما يعتري طلبة العلوم فلعل النية أن يرزقها الله بعد
وأيضاً فمن طلب العلم للآخرة كسره العلم وخشع لله واستكان وتواضع ، ومن طلبه للدنيا تكبر وتجبر وازدرى بالمسلمين العامة وكان عاقبة أمره إلى سفال وحقارة.اهـ
@- ولا ينبغي للمحدث أن يحدث بحضرة من هو أعلم منه أو أكبر منه سناً ، وكان السلف الصالح لا يحدثون بحضرة الأكابر ، بل يسكتون وينصتون ، احتراماً لهم وتقديراً.
قال الحافظ ابن الصلاح في علوم الحديث(٢٢٦):
لا ينبغي للمحدث أن يحدث بحضرة من هو أولى منه بذلك ، وكان إبراهيم والشعبي إذا اجتمعا لم يتكلم إبراهيم بشيء.اهـ
وقال الحافظ ابن كثير في اختصار علوم الحديث(٤٢٧): وقالوا: لا ينبغي أن يحدث بحضرة من هو أولى سناً أو سماعاً ، بل كره بعضهم التحديث ولمن في البلد أحق منه.اهـ
@- وينبغي للمحدث أن يجلس للحديث بوقار وهيبة
وسمت حسن ويكون متواضعاً هيناً ليناً في كلامه وجلوسه.
عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانهُ، ولا ينزعُ من شيءٍ إلا شانهُ» رواه مسلم(٢٥٩٤)
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: «تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ، وَتَعَلَّمُوا لِلْعِلْمِ السَّكِينَةَ وَالْحِلْمَ، وَتَوَاضَعُوا لِمَنْ تُعَلِّمُونَ، وَتَوَاضَعُوا لِمَنْ تَعَلَّمُونَ مِنْهُ، وَلَا تَكُونُوا جَبَابِرَةَ الْعُلَمَاءِ، فَلَا يَقُومُ عِلْمُكُمْ بِجَهْلِكُمْ»
رواه الخطيب في الجامع(٤١)
قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: «كَانُوا يَتَعَلَّمُونَ الْهَدْيَ كَمَا يَتَعَلَّمُونَ الْعِلْمَ» قَالَ: وَبَعَثَ ابْنُ سِيرِينَ رَجُلًا فَنَظَرَ كَيْفَ هَدْيُ الْقَاسِمِ وَحَالُهُ “
رواه الخطيب في الجامع(٩)
قال عبدالله بن وَهْبٍ سَمِعْتُ مَالِكًا، يَقُولُ: «إِنَّ حَقًّا عَلَى مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَقَارٌ وَسَكِينَةٌ وَخَشْيَةٌ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَّبِعًا لِأَثَرِ مَنْ مَضَى قَبْلَهُ»
رواه الخطيب في الجامع(٢٠٩)
قال المروذي قلت لأبي عبدالله : الرجل يقال له في وجهه: أحييت السنة ؟ قال أحمد: هذا فساد لقلب الرجل.
وقال المروذي: قلت لأبي عبدالله : ما أكثر الداعين لك! فتغرغرت عينه وقال: أخاف أن يكون هذا استدراجاً.
وقال المروذي : قال رجل لأبي عبدالله: الحمد لله الذي رأيتك ، فقال أحمد: اقعد أيش هذا؟ مَن أنا؟!
ذكره الحجاوي في شرح منظومة الآداب(٨٧)
@- ينبغي له أن يكون بهيئة حسنه ويلبس أحسن ثيابه.
كان الإمام مالك رحمه الله إذا حضر مجلس الحديث توضأ واغتسل وتطيب ولبس أحسن ثيابه.
رواه الخطيب في الجامع(٩٠٢)
@- وينبغي للمحدث أن لا يكون سخيفاً ثرثاراً كثير الضحك واللعب والعبث ، وأن يجتنب المحرمات وخوارم المروءات ، ويحتفظ بسمعته الطيبة.
قال تعالى ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن )
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه مرفوعاً ( إن الله يبغض الفاحش البذيء )
رواه الترمذي(٢٠٠٢) وقال: حسن صحيح ، وصححه ابن حبان(٥٦٩٤)
قال سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ: كُنَّا عِنْدَ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ فَضَحِكَ رَجُلٌ مِنَّا فَقَالَ لَهُ هِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ: «تَضْحَكُ وَأَنْتَ تَطْلُبُ الْحَدِيثَ»
رواه الخطيب في الجامع(٢١١)
قال الخطيب البغدادي رحمه الله في الجامع (٢١٠): يَجِبُ عَلَى طَالِبِ الْحَدِيثِ أَنْ يَتَجَنَّبَ اللَّعِبَ وَالْعَبَثَ وَالتَّبَذُّلَ فِي الْمَجَالِسِ بِالسَّخْفِ، وَالضَّحِكِ، وَالْقَهْقَهَةِ، وَكَثْرَةِ التَّنَادُرِ، وَإِدْمَانِ الْمِزَاحِ وَالْإِكْثَارِ مِنْهُ، فَإِنَّمَا يُسْتَجَازُ مِنَ الْمِزَاحِ يَسِيرُهُ وَنَادِرُهُ وَطَرِيفُهُ الَّذِي لَا يَخْرُجُ عَنْ حَدِّ الْأَدَبِ وَطَرِيقَةِ الْعِلْمِ، فَأَمَّا مُتَّصِلُهُ وَفَاحِشُهُ وَسَخِيفُهُ وَمَا أَوْغَرَ مِنْهُ الصُّدُورَ وَجَلَبَ الشَّرَّ؛ فَإِنَّهُ مَذْمُومٌ وَكَثْرَةُ الْمِزَاحِ وَالضَّحِكِ يَضَعُ مِنَ الْقَدْرِ، وُيُزِيلُ الْمُرُوءَةَ.اهـ
قال ابن بطال رحمه الله في شرح البخاري(٩/٢٨٨): كثرة الضحك يميت القلب فالإكثار منه وملازمته حتى يغلب على صاحبه مذموم منهي عنه وهو من فعل أهل السفه والبطالة.اهـ
@- وينبغي للمحدث أن يكون ناصحاً للطلاب
يدلهم على ما ينفعهم ويحذرهم عن ما يضرهم
فإن الدين النصيحة.
قال تميم الداري رضي الله عنه قال رسول الله عليه الصلاة والسلام ( الدين النصيحة ) قلنا لمن
قال ( لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ) رواه مسلم(٥٥)
وقال جرير البجلي رضي الله عنه ( بايعت رسول الله عليه الصلاة والسلام على السمع والطاعة
والنصح لكل مسلم ) رواه البخاري(٢٧٥٣) ومسلم(٢٠٨)
قال الحافظ الذهبي في الموقظة(٣٤): ومن آداب المحدث : أن لا يغش المبتدئين ، بل يدلهم على المهم فالدين النصيحة.اهـ
@- وينبغي للمحدث أن يبذل نفسه للطلبه ويعطيهم ما عنده من العلم ، ولا يكتم عنهم العلم.
قال تعالى ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينـٰت
والهدى من بعد ما بينـٰه للناس في الكتـٰب أولـٰىـءك
يلعنهم الله ويلعنهم اللـٰعنون )
وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً( من سئل عن علم علمه ثم كتمه أُلجم يوم القيامة بلجام من نار ) رواه الترمذي( ٢٦٤٩) وحسنه ، وابن ماجه(٢٦٤) وقال الألباني: صحيح.
@- وينبغي للمحدث أن يكون أميناً في المشورة إذا استشاره الطلاب ، فإن المستشار مؤتمن.
عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً( المستشار
مؤتمن ) رواه الترمذي(٢٨٢٢) وحسنه وله شواهد.
@- وينبغي للمحدث أن يبدأ مجلس التحديث بحمد الله سبحانه تعالى ، ثم الصلاة والسلام على نبيه محمد عليه الصلاة والسلام.
والأفضل يقول خطبة الحاجة: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
@- وينبغي للمحدث أن يتكلم بصوت واضح مسموع ويتجنب اللحن ما استطاع.
عن أبي سلام عن رجل خدم النبي عليه الصلاة والسلام أن النبي عليه الصلاة والسلام ( كان إذا حدث بالحديث أعاده ثلاث مرات ) رواه أبو داود(٣٦٥٣)
وأصله في البخاري (٩٤) عن أنس رضي الله عنه بلفظ( … وإذا تكلم بالكلمة أعادة ثلاثاً )
@- وينبغي للمحدث إذا مر بذكر الله تعالى أن يقول:(الله جل جلاله) أو يقول : (الله تبارك وتعالى)
وإذا مر بذكر النبي عليه الصلاة والسلام يصلِ ويسلم عليه ، وإذا مر بذكر الصحابي ترضى عليه ، وإذا مر بذكر إمام من أئمة السلف ترحم عليه.
@- وينبغي للمحدث أن يكون عاملاً بالعلم
فإن العمل بالعلم يعين على حفظ العلم.
وقد قيل: إن العلم العمل.
قال تعالى( فإذا قرأنـٰه فاتبع قرءانه ) قال بعض المفسرين: أي إذا علمت فأعمل
قَالَ عبدالله بْنُ مَسْعُود رضي الله عنه : «تَعَلَّمُوا تَعَلَّمُوا فَإِذَا عَلِمْتُمْ فَاعْمَلُوا»
رواه الخطيب في اقتضاء العلم العمل(١٠)
قال أبو هُرَيْرَة رضي الله عنه: «مَثَلُ عِلْمٍ لَا يُعْمَلُ بِهِ كَمَثَلِ كَنْزٍ لَا يُنْفَقُ مِنْهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»
رواه الخطيب في اقتضاء العلم العمل(١٢)
قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه : «لَا تَكُونُ عَالِمًا حَتَّى تَكُونَ مُتَعَلِّمًا، وَلَا تَكُونُ بِالْعِلْمِ عَالِمًا حَتَّى تَكُونَ بِهِ عَامِلًا»
رواه الخطيب في اقتضاء العلم العمل(١٧)
قال عَمْرَو بْنَ قَيْسٍ الْمُلَائِيَّ، يَقُولُ: «إِذَا بَلَغَكَ شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ فَاعْمَلْ بِهِ وَلَوْ مَرَّةً تَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ»
رواه الخطيب في الجامع(١٨٢)
قال أَبَو الْقَاسِمِ بْنَ مَنِيعٍ، يَقُولُ: أَرَدْتُ الْخُرُوجَ إِلَى سُوَيْدِ بْنِ سَعِيدٍ، فَقُلْتُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: يَكْتُبُ لِي إِلَيْهِ، فَكَتَبَ: وَهَذَا رَجُلٌ يَكْتُبُ الْحَدِيثَ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَكَ وَلُزُومِي لَوْ كَتَبْتَ: هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ ” قَالَ: «صَاحِبُ الْحَدِيثِ عِنْدَنَا مَنْ يَسْتَعْمِلُ الْحَدِيثَ»
رواه الخطيب في الجامع(١٨٣)
قال الْمَرُّوذِيُّ: قَالَ لِي أَحْمَدُ: «مَا كَتَبْتُ حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا وَقَدْ عَمِلْتُ بِهِ، حَتَّى مَرَّ بِي الْحَدِيثُ» أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَأَعْطَى أَبَا طَيْبَةَ دِينَارًا «، فَأَعْطَيْتُ الْحَجَّامَ دِينَارًا حَتَّى احْتَجَمْتُ»
رواه الخطيب في الجامع(١٨٤)
@- ينبغي للمحدث أن لا يحدث المبتدعة أهل الزيغ الضلال ، بل يُعرض عنهم ولا يحدثهم.
قال الإمام العجلي في الثقات(٤٥٢):
زائدة بن قدامة كان لا يحدث أحداً حتى يسأل عنه فإن كان صاحب سنة حدثه وإلا لم يحدثه.اهـ
وقال الإمام المزي في التهذيب(١٢/٥٧٢):
وقال هشام بن عمار: لقيت شهاب بن خراش وأنا شاب فقال لي: إن لم تكن قدرياً ولا مرجئاً حدثتك
وإلا لم أحدثك ، فقلت: ما فيّ من هذين شيء.اهـ
@- وينبغي للمحدث أن لا يشترط الأجرة على تحديثه.
قال أحمد وإسحاق وأبو حاتم : لا يكتب عنه
إذا أخذ على حديثه أجره.
رواه الخطيب في الكفاية(٢٤٠)
ورخص أبو نعيم الفضل بن دكين وغيره أخذ الأجرة ، واختاره الحافظ السخاوي في فتح المغيث(٢/٩٦) قالوا: كما تؤخذ الأجرة على تعليم القرآن.
والأحوط الترفع عنها ما لم يكن محتاجاً لها لفقره.
@- وينبغي للمحدث إذا رأى حفظه بدئ يتغيير بسبب كبر سن ونحوه ، أن يمسك عن التحديث
ولا يحدث.
قال الحافظ الذهبي في الموقظة(٣٣): وليمتنع – المحدث – مع الهرم وتغير الذهن وليعهد إلى أهله وإخوانه حال صحته : أنكم متى رأيتموني تغيرت فامنعوني من الرواية.اهـ
كتبه/
بدر بن محمد البدر
١/رمضان/١٤٣٦هـ