– مباحث في علم مصطلح الحديث –
– مرتبة تصحيح الإمام الترمذي –
الإمام الترمذي ، أحد أئمة الحديث النقاد الأعلام ، صحح وحسن أحاديث كثيرة في جامعه ، وضعف أحاديث كثرة.
وقد رمي الإمام الترمذي بالتساهل في تصحيحه وتحسينه لبعض الأحاديث التي رواها في جامعه.
قال الحافظ الزيلعي في نصب الراية (٢/٢١٧):
قال ابن دِحْيَة: وكم حَسّن الترمذي في كتابه من أحاديث موضوعة وأسانيد واهية.اهـ
وقال الحافظ الذهبي في السير(١٣/٢٧٦): جامع الترمذي قاضٍ له بإمامته وحفظه وفقهه ، ولكن يترخّص في قبول الأحاديث ، ولا يُشدّد ، و نفَسهُ في التضعيف رَخو.اهـ
والتحقيق: أن الإمام الترمذي ليس متساهلاً مطلقاً
بل هو إمام ناقد وتصحيحه معتبر ، وربما تسامح في تصحيح أو تحسين بعض الأحاديث حسب اجتهاده ، وأما وصفه بالتساهل مطلقاً ، فليس بصحيح لعدة أمور:
أولاً: أن الحافظ ابن الصلاح وهو من كبار أئمة الحديث النقاد ، ذكر أن جامع الترمذي من الكتب المعتمدة في الصحة في القدر الزائد على ما في الصحيحين.
قال الحافظ ابن الصلاح في علوم الحديث(٣١) : ثم إن الزيادة في الصحيح
على ما في الكتابين – يعني صحيح البخاري وصحيح مسلم – يتلقاها طالبها مما اشتمل عليه أحد المصنفات المعتمدة المشهورة لأئمة الحديث كأبي داود وأبي عيسى الترمذي وأبي عبدالرحمن
النسائي وأبي بكر ابن خزيمة وأبي الحسن الدارقطني وغيرهم منصوصاً على صحته فيها.اهـ
فلو كان تصحيح الترمذي غير معتبر لما اعتمد الحافظ ابن الصلاح تصحيحه.
ثانياً: أن كبار الأئمة النقاد كانوا يحتجون بتصحيح الترمذي في كتبهم منهم: الحافظ المنذري في كتابه الترغيب والترهيب والحافظ النووي في الأربعين والأذكار وغيرهما والحافظ العراقي في كتابه المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الأحياء من الأخبار ، وغيرهم كُثُر ، فلو كان تصحيحه غير معتبر لما احتج به الأئمة.
ثالثاً: أن الترمذي صحح جملة من أحاديث الضعفاء لتوثيق بعض الأئمة النقاد لهم.
مثال ذلك:
١- عبدالله بن محمد بن عقيل.
ضعفه الأئمة الحفاظ
وحسن الإمام الترمذي له عدة أحاديث في جامعه.
قال الترمذي في جامعه (ح- ٣) : عبدالله بن محمد بن عقيل ، صدوق ، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه ، وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: كان أحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم والحميدي يحتجون بحديث عبدالله بن محمد بن عقيل ، وقال محمد: وهو مقارب الحديث.اهـ
وقال الترمذي (ح-١٢٨): عن حديث ابن عقيل في المستحاضة.
سألت محمداً عن هذا الحديث؟ فقال:هو حديث حسن ، وهكذا قال أحمد بن حنبل:هو حديث حسن صحيح.اهـ
٢- عبدالرحمن بن أبي الزناد
ضعفه جمع من الحفاظ.
وحسن له الترمذي
قال الترمذي في جامعه (ح- ٩٨): قال محمد: وكان مالك يُشير بعبدالرحمن بن أبي الزناد.اهـ
٣- كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف المزني.
ضعيف عند أكثر أهل العلم.
وحسن له الترمذي عدة أحاديث.
قال العلامة ابن الملقن في البدر المنير(٦/٦٨٨)
كثير بن عبدالله ، حسّن البخاري حديثاً له،
قال الترمذي: قلتُ للبخاري في حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده: في الساعة التي ترجى يوم القيامة، قال: حديث حسن.اهـ
٤- عبدالله بن زيد بن أسلم.
ضعفه طائفة.
وصحح له الترمذي
قال الترمذي في جامعه (ح-٤٦٦): سمعت أبا داود السجزي يقول سألت أحمد بن حنبل عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم؟ فقال: أخوه عبدالله لا بأس به.
وسمعت محمداً يذكر عن علي بن عبدالله: أنه ضعف عبدالرحمن بن زيد بن أسلم ، وقال: عبدالله بن زيد بن أسلم ثقة.اهـ
٥- محمد بن عجلان.
ضعفه بعض الأئمة.
صحح له الترمذي
وقال الترمذي(ح-٥١١): حديث حسن صحيح
وسمعت ابن أبي عمر يقول: قال ابن عيينة: كان محمد بن عجلان ثقة مأموناً في الحديث.اهـ
رابعاً: أنه قد يصحح الحديث أو يحسنه على ما وصل إليه اجتهاده ، والترمذي من أهل الصنعة في علم الحديث وهو أهل للاجتهاد.
مثال ذلك:
١- حديث: إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن سمرة قال: (أمرنا رسول الله عليه الصلاة والسلام إذا كنا ثلاثة أن يتقدم أحدنا)
قال الترمذي في جامعه (ح- ٢٣٣): وفي الباب عن ابن مسعود وجابر وأنس ، وحديث سمرة حسن غريب
، وقد تكلم بعض الناس في إسماعيل بن مسلم المكي من قبل حفظه.اهـ
– حسن الترمذي حديث إسماعيل رغم ضعفه لوجود شواهد تعضد حديثه.
٢- حديث فاطمة بنت الحسين عن جدتها فاطمة الكبرى قالت:(كان رسول الله عليه الصلاة والسلام إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم)
قال الترمذي في جامعه (ح-٣١٥): وفي الباب عن أبي حميد وأبي أسيد وأبي هريرة ، وحديث فاطمة حديث حسن ، وليس إسناده بمتصل ، وفاطمة بنت الحسين لم تدرك فاطمة الكبرى.اهـ
– حسن الترمذي الحديث رغم تنصيصه على انقطاعه لوجود شواهد تعضده.
٣- حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
قال الترمذي في جامعه (ح-٣٢٢): حديث حسن ، وعمرو بن شعيب هو ابن محمد بن عبدالله بن عمرو بن العاص ، قال محمد بن إسماعيل: رأيت أحمد وإسحاق وذكر غيرهما يحتجون بحديث عمرو بن شعيب ، وقال محمد: وقد سمع شعيب بن محمد عن عبدالله بن عمرو ، ومن تكلم في حديث عمرو بن شعيب إنما ضعفه لأنه يحدث عن صحيفة جده كأنهم رأوا لم يسمع هذه الأحاديث من جده ، وقال علي بن عبدالله وذُكر عن يحيى بن سعيد أنه قال: حديث عمرو بن شعيب عندنا واه.اهـ
– حسن الترمذي حديث عمرو بن شعيب لاحتجاج الأئمة النقاد بحديث عمرو بن شعيب.
٤- رواية أبي عبيدة بن عبدالله بن مسعود عن أبيه.
قال الترمذي في جامعه (ح-٣٦٦) حديث أبي عبيدة بن عبدالله عن أبيه ( كان رسول الله عليه الصلاة والسلام إذا جلس في الركعتين الأُوليين كأنه على الرضف)
هذا حديث حسن ، إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه ، والعمل على هذا عند أهل العلم يختارون أن لا يطيل الرجل القعود في الركعتين الأوليين.اهـ
– حسن الترمذي حديث أبي عبيدة مع حكمه على روايته بالانقطاع لعمل أهل العلم عليه ، ومن المعلوم أن الحديث الضعيف إذا كان يسير الضعف يعتضد بعمل الأمة به.
قال الحافظ الزركشي في النكت على مقدمة
ابن الصلاح(١٢٣): الحديث الضعيف إذا تلقته الأمة بالقبول عمل به على الصحيح.اهـ
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (٥/٤٢٥):
قال البخاري في صحيحه كتاب الوصايا
( ويذكر أن النبي عليه الصلاة والسلام قضى بالدين قبل الوصية)
إسناده ضعيف لكن قال الترمذي إن العمل عليه عند أهل العلم، وكأن البخاري اعتمد عليه لاعتضاده بالاتفاق على مقتضاه وإلا فلم تجر عادته أن يورد الضعيف في مقام الإحتجاج به.اهـ
٥- رواية الحسن البصري عن سمرة.
تنازع العلماء في سماع الحسن من سمرة غير حديث العقيقة.
قال الترمذي في جامعه (ح- ١٨٢): قال محمد : قال علي بن عبدالله: حديث الحسن عن سمرة بن جندب صحيح وقد سمع منه.اهـ
– صحح الترمذي سماع الحسن عن سمرة مطلقاً
لأنه قول علي بن المديني ومحمد بن إسماعيل البخاري ، وهما من كبار الأئمة النقاد.
– خامساً: من المقرر في علم الحديث أن المكثر في الرواية إذا أصاب في غالب حديثه وأخطأ في بعض لا يقدح هذا الخطأ فيه ولا يقلل من شأنه ، لأن العبرة بالغالب.
قال الإمام أحمد: كان مالك من أثبت الناس وكان يخطأ.
( ذكره ابن رجب في شرح العلل-١٥٠)
وقال الإمام الترمذي في العلل الصغرى(٥٠): لم يسلم من الخطأ والغلط كبير أحد من الأئمة مع حفظهم.اهـ
وقال الحافظ ابن الصلاح في علوم الحديث(٥٠): يعرف كون الراوي ضابطاً بأن تعتبر رواياته بروايات الثقات المعروفين بالضبط فإن وجدنا رواياته موافقة ولو من حيث المعنى لرواياتهم أو موافقة لها في الأغلب والمخالفة نادرة عرفنا حينئذ كونه ضابطاً ثبتاً.اهـ
والإمام الترمذي غالب تصحيحه أصاب فيه.
كتبه/
بدر بن محمد البدر.
٤/١٠/١٤٣٦هـ